إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسلهُ الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.قال العلامة الفقيه الأصولي محمد ابن صالح العثيمين رحمه الله:
أما بعد
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى واعتصموا بالإسلام فهو العروة الوثقى وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون أيها المسلمون تفقهوا في دين الله فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)(1) تفقهوا في الدين عقيدة تفقهوا في الله أحكاماً تفقهوا في الدين أخلاقاً فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون اطلبوا العلم فإن العلم نور وهداية والجهل ظلمة وضلالة اطلبوا العلم فإنه مع الإيمان رفعة في الدنيا والآخرة كما قال الله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [ المجادلة : 11 ] اطلبوا العلم لتكونوا ورثة الأنبياء ونعم الموروث ونعم المورث فتكون أنتم نعم الوارث إذا أنتم طلبتم العلم لأن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا دينارا فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم توفي لم يرثه أحد من ذوي الفروض ولا من العصبة لأن الأنبياء أشرف وأعظم من أن يورثوا شيئاً من لعاعة الدنيا وإنما ورثوا العلم قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: ( إنا معشر الأنبياء لا نورث )(2) ( وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر) (3)( يعني من ميراثهم ) أيها المسلمون ولا سيما الشباب منكم من ذكور وإناث اطلبوا العلم فإنه ذخر لكم في الحياة الدنيا وبعد الممات قال النبي صلوات الله وسلامه عليه : ( إذا مات الإنسان أنقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له )(4) اطلبوا العلم يكن لكم لسان صدق في الآخرين فإن آثار العلم تبقى بعد فناء أهله فالعلماء الربانيون لم تزل آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورا وسعيهم مشكورا وذكرهم مرفوعا إن ذكروا في المجالس امتلأت المجالس بالثناء عليهم والدعاء لهم وإن ذكرت الأعمال الصالحة والآداب العالية والأخلاق الفاضلة كانوا قدوة الناس فيها: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام : 122] أيها المسلمون اطلبوا العلم مبتغين به الأجر من الله لا لتنالوا عرض من الدنيا فإن من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض من الدنيا لم يجد عَرفْ الجنة يوم القيامة إي لم يجد ريح الجنة اطلبوا العلم لترفعوا به الجهل عن أنفسكم فإن الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ولا علم إلا بالتعلم اطلبوا العلم لترفعوا به الجهل عن عباد الله فتنشروا العلم بين الخلق فإن على أهل العلم حق فإن على أهل العلم حقاً يجب عليهم ألا وهو تبليغ العلم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :( بلغوا عني ولو آية )(5) وقال:( ليبلغ الشاهد منكم الغائب )(6) اطلبوا العلم لتحفظوا به شريعة الله فإن شريعة الله أيها المسلمون تحفظ بشيئين الكتابة في المستور والحفظ في الصدور وهو العلم وكذلك أيضاً تحفظ بالعمل فإن الناس إذا عملوا بشريعة الله استقرت الشريعة بينهم وورثها الأصاغر عن الأكابر اطلبوا العلم لتدافعوا به عن شريعة الله فإن أعداء الله يتربصون بكم الدوائر إنهم يريدون أن تبقوا جهلة لا تعرفون من دينكم شيئا ويريدون أن يَضِلَّ العالم فينحرف حتى يَصُدْ عن سبيل الله اطلبوا العلم لتدافعوا به عن الشريعة لأن الدفاع عن الشريعة إنما يكون برجال الشريعة أرأيتم لو أن رجلاً ضالاً مبتدعا أو ملحداً أو مخرفاً قام يدعو إلى ضلالته بين قوم لا علم عندهم فهل يستطيع أحداً منهم أن يبين ضلالته ويحمي الشريعة من عدوانه ولو قام هذا الضال يدعو إلى ضلالته وحوله من كتب الحق والهدى ما لا يحصى فإن هذه الكتب لن يقفز منها كتاب واحد ليبين ضلالته ويكبح عدوانه ولو قام هذا الضال يدعو إلى ضلالته في قوم بينهم عالم بالشريعة لقام هذا العالم مبيناً ضلاله داحضاً حجته مبطلاً لدعوته اطلبوا العلم لتدعو به إلى الله فإن الدعوة إلى الله لا تتم بدون العلم وكم من شخص نصب نفسه داعية إلى الله لكنه لا علم عنده فلا تكمل دعوته ولا تتم وربما تكلم عن جهل فأفسد أكثر مما يصلح قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف : 108] أيها الناس إن طلب العلم من أفضل الأعمال لما فيه من هذه المطالب العالية والمناقب الفاضلة ولا سيما في وقتنا هذا الذي كثر فيه طلب الدنيا والتكالب عليها كثر فيه القراء العارفون دون الفقهاء الربانيين إن ثمرة العلم هي العمل والدعوة إلى الله به فمن لم يعمل بعلمه كان علمه وبالاً عليه ومن لم يدعو الناس به كان علمه قاصراً عليه وكان آثماً لكونه لم يبلغ ما علمه الله عز وجل أيها المسلمون لا يخفى عليكم أن طلب العلم معادل للجهاد في سبيل الله بل إن طلب العلم هو الأصل إذا لا جهاد في سبيل الله إلا بعلم ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ﴾ [ التوبة :122] إي ما كانوا ليفروا الجهاد في سبيل الله جميعا:﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ [ التوبة : 122 ] يعني وقعدت طائفة (ليتفقهوا) إي القاعدون في دين الله في الدين﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [ التوبة : 122] فجعل هؤلاء القاعدين للتفقه في دين الله معادلين للنافرين للجهاد في سبيل الله بل إن بعض أهل العلم فضل طلب العلم على الجهاد في سبيل الله لأن الأصل هو العلم أيها الأخوة وإذا ورثكم الله عز وجل علما وعملتم به فثقوا أن الله تعالى سيزيدكم علما كما قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [ محمد : 17 ] أما من ترك العمل بما علم فيوشك أن ينزع الله عنه العلم كما قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة : 13] وقد قيل (العلم يهتف بالعمل إي يدعوه فإن أجاب وإلا أرتحل) وقيل (قيدوا العلم بالعمل كما تقيدونه بالكتابة) أيها الأخوة إن لنيل العلم طريقين أحدهما أن يتلقى طالب العلم ذلك من الكتب الموثوق بها والتي ألفها علماء مرضى ون بعلمهم وأمانتهم والثاني أن يتلقى ذلك من معلم موثوق به علماً وديانة وهذا الطريق أعني الطريق الثاني أسلم من الخطأ وأسرع في التحصيل وأثبت في العلم لأن الطريق الأول طريق التلقي من الكتب قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري إما لسوء فهمه أو قصور علمه أو لغير ذلك ولأن الطريق الثانية تكون فيه المناقشة والأخذ والرد بين الطالب والعالم فينفتح للطالب بذلك إي بالمناقشة أبواب كبيرة في الفهم والتحقيق وكيفية الدفاع عن الأقوال الصحيحة ورد الأقوال الضعيفة وإذا جمع الطالب بين الطريقين التلقي من الكتب ومن المعلمين كان ذلك أكمل وأتم وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها حتى يكون مترقياًً من درجة إلى ما فوقها فلا يصعد إلى درجة إلا وقد تمكن مما تحتها ليكون صعوده سليما ولئن سألتم ما حكم طلب العلم أهو فرض عين أم فرض كفاية أم سنة فالجواب طلب العلم في الأمور التي يحتاج الإنسان إليها في دينه فرض عين فيجب على من أراد أن يصلي أن يتعلم أحكام الصلاة ومن كان عنده مال أن يتعلم أحكام الزكاة ومن أراد أن يصوم أن يتعلم أحكام الصوم من أراد أن يحج أن يتعلم أحكام الحج لأن هذه عبادات متلقاة من الشرع فلابد أن يعلم كيف شرعها الشارع ليعبد الله على بصيرة هذا الطلب فرض عين على كل إنسان وأما طلب العلم عموماً فإنه فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الفرض عن الباقين ولكنه يبقى في حق الآخرين سنة فتبين بهذا أن طلب العلم إما فرض عين وإما فرض كفاية وإما سنة والقائم به قائم بفرض كفاية إذا لم يكن فرض عين عليه وما تقرب أحد إلى الله بشيء أحب إليه من ما أفترضه عليه أيها الأخوة المسلمون اطلبوا العلم اطلبوه طلباً راسخا حتى يستقر في نفوسكم وأعلموا أن الإنسان إذا حبس نفسه لطلب العلم فقد يكون ذلك شاقاً عليه في أول الأمر ولكنه يألفه ويحبه حتى يكاد يكون كالغريزة في نفسه فيألفه ولا ينفك عنه اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن ترزقنا علماً نافعا وعملاً صالحا ورزقاً طيبا واسعا اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يا رب العالمين اللهم أجعل علمنا هادياً لك إلى صراطك المستقيم وأجعله نور في قلوبنا وفي قبورنا وفي محشرنا يا رب العالمين إنك جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المصدر من هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق