قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله- : " وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق ؛ أن ينظر في أمرين ؛
أحدهما : دلالة الكتاب والسنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق
الثاني : انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع " . "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ " (3/343) .
وقال الإمام الشافعي – رحمه الله - : " لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته ، ولا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها ، لأن القرآن نزل بها ، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول ؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر ، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل ، لأن علم ذلك لا يقدر بالعقل ، ولا بالرؤية والقلب والفكر ، ولا نكفر بالجهل أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه " . انتهى
عزاه الحافظ ابن حجر قي الفتح ( 13 / 407 ) ، وابن جماعة في إيضاح الدليل ؛ ل "مناقب الشافعي " لابن أبي حاتم ، وسنده صحيح .
وقال ابن العربي المالكي – رحمه الله - : " فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً وكافراً ؛ فإنه يعذر بالجهل والخطأ ، حتى يتبين له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله " . ذكره القاسمي في " محاسن التأويل " ( 5 / 1307 ) .
وقال الإمام ابن تيمية – رحمه الله - : " فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين؛
أحدهما : أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول ، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق ، فنفي الصفات كفر ، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة ، أو أنه على العرش ، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى ، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث .
والأصل الثاني : أن التكفير العام ـ كالوعيد العام ـ يجب القول بإطلاقه وعمومه .
وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين؛ فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه " ." مجموع الفتاوى " ( 12/497-498 ) .
وقال – رحمه الله - : " فإن نصوص " الوعيد " التي في الكتاب والسنة ، ونصوص الأئمة بالتكفير و التفسيق ونحو ذلك ؛ لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين ؛ إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع . هذا في عذاب الآخرة فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار أو غير خالد ، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه " القاعدة " سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية أو بسبب فجور في الدنيا وهو الفسق بالأعمال .
فأما أحكام الدنيا فكذلك أيضا ؛ فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقا بدعوتهم ؛ إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة " ( 10/372) من مجموع الفتاوى .
وانظر مجموع الفتاوى ( 3/354 ، 7/619 ، 12/487 – 488 ، 497 – 498 ، 523 – 524 ، 23/345 ، 28/500 – 501 ، 35/165 ) .
موانع التكفير :
1-
عدم التكليف : غير المكلف ؛ كالصبي والمجنون إذا وقع في الكفر ، لا يقع عليه الكفر ؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصغير حتى يكبر" وفي رواية : " وعن المجنون حتى يعقل " أخرجه أحمد ( 6/116) ، وأبو داود (4398) ، والنسائي ( 3432) ، وابن ماجه (2042) ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ، وهو صحيح انظر تخريجه في " البدر المنير " (3/225) .
قال ابن المنذر – رحمه الله - : " وأجمعوا أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان قبل ذلك " " الإجماع " ( ص 128 ، دار المسلم ) .
وقال ابن قدامة في " المغني " (10/73) : " إن الردة لا تصح إلا من عاقل فأما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون ، ومن زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شربه ؛ فلا تصح ردته ولا حكم بكلامه بغير خلاف ... ثم نقل كلام ابن المنذر في " الإجماع " .
وقال – رحمه الله – (10/100) : " ولا تصح ردة المجنون ولا إسلامه لأنه لا قول له ... " .
وقال النووي في " روضة الطالبين " ( 10/71) : " فلا تصح ردة صبي ولا مجنون ، ومن ارتد ثم جن فلا يقتل في جنونه " .
وبهذا يتبين أن التكليف شرط في تكفير المعين ، وعدمه مانع منه .
2. 3. 4. الجهل والخطأ والنسيان :
تقدم قول الإمام الشافعي – رحمه الله - : " ... فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر ، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل ؛ لأن علم ذلك لا يقدر بالعقل ، ولا بالرؤية والقلب والفكر ، ولا نكفر بالجهل أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه " .
وكذلك تقدم قول ابن العربي : " فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً ؛ فإنه يعذر بالجهل والخطأ ، حتى يتبين له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله " .
وقال الإمام ابن تيمية
– رحمه الله - : " والأصل الثاني : أن المقالة تكون كفراً ؛ كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم ، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده ؛ كمن هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام ، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول ... " " مجموع الفتاوى " ( 3/354) .
وقال
– رحمه الله- : فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له ؛ فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية . وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت ؛ لعدم بلوغ الحجة له ؛ فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم ؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع . " مجموع الفتاوى " (3/354) . وانظر " مجموع الفتاوى" ( 3/230 ، 354 ، 7/617 ، 11/407 ، 12/180 ،20/33 ،33/135 ، 35/165 ، 37/23 ) .
وقال ابن عثيمين
– رحمه الله - في تتمة كلامه الذي تقدم عنه : " ومن أهم الشروط – أي : شروط تكفير المعين – أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت كفره لقوله تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له " ." مجموع الفتاوى والرسائل " ( 3/343) وقال : " ومن الموانع أيضاً أن يكون له شبهة تأويل في المكفر بحيث يظن أنه على حق ؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلاً في قوله - تعالى -: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} . ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله -تعالى-: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} .
قال في المغني ( 8/131 ): "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك -يعني يكون كافراً - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين ، وأموالهم ، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله - تعالى - إلى أن قال-: وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم ، وأموالهم ، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم ، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا" .
وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية( 13/30 ) مجموع ابن القاسم: "وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن ، لم يقصدوا معارضته ، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه ، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب" .
وفي (ص 210 ) منه : "فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم . . وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن".
وقال أيضاً (28/518 ) من المجموع المذكور: "فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم ، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين" . لكنه ذكر في 7/217 "أنه لم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره ، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع" .
وفي (28/518) : "أن هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره" .
وفي (3/282 ) قال: "والخوارج المارقون الذين أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين ، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم ، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وغيرهما من الصحابة ، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام ،وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم ، لا لأنهم كفار . ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم ، وإذا كان هؤلاء الذي ثبت ضلالهم بالنص ، والإجماع ، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم ، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى ، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة ، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه" . إلى أن قال:"وإذا كان المسلم متأولاً في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك" . إلى أن قال في ص 288 : "وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره . . والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله -تعالى -: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} . وقوله : {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. وفي الصحيحين عن النبي، صلى الله عليه وسلم : "ما أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين".
والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً ، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً ، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة ، والاعتبار ، وأقوال أهل العلم " .(2/136 -138).
وانظر " مجموع الفتاوى والرسائل للشيخ ابن عثيمين ( 2/124 – 140، 3/ 342 ، 7/42 ، 10/744 ) .
تنبيه :
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين :
الجاهل بما يترتب على المخالفة غير معذور إذا كان عالمًا بأن فعله مخالف للشرع كما تقدم دليله ، وبناء على ذلك فإن تارك الصلاة لا يخفى عليه أنه واقع في المخالفة إذا كان ناشئًا بين المسلمين فيكون كافرًا وإن جهل أن الترك كفر . نعم إذا كان ناشئًا في بلاد لا يرون كفر تارك الصلاة وكان هذا الرأي هو الرأي المشهور السائد بينهم ، فإنه لا يكفر لتقليده لأهل العلم في بلده ، كما لا يأثم بفعل محرم يرى علماء بلده أنه غير محرم ؛ لأن فرض العامي التقليد لقوله - تعالى - : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } . والله الموفق. " مجموع الفتاوى والرسائل " ( 2/ 138) .
وقال : الإمام ابن تيمية : وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم فإن هؤلاء حلفوا بالله ما قالوا ، وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك ، فلم يصلوا إلى مقصودهم ؛ فإنه لم يقل : هموا بما لم يفعلوا لكن { بما لم ينالوا } فصدر منهم قول وفعل قال تعالى : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } فاعترفوا واعتذروا ؛ ولهذا قيل : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا ، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر ، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه ، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف ، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ، ولكن لم يظنوه كفرا ، وكان كفرا كفروا به ؛ فإنهم لم يعتقدوا جوازه ... " . " مجموع الفتاوى " ( 7/ 273 ) .
5 - عدم إرادة الفعل :
قال ابن عثيمين – رحمه الله - : " ومن الموانع أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه ، ولذلك صور منها: أن يكره على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئناناً به، فلا يكفر حينئذ، لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم }.
ومنها أن يغلق عليه فكره، فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك ؛ ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حتى يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح". " مجموع لفتاوى والرسائل " (3/343) .
وقال : " ومن الموانع أن يغلق عليه فكره وقصده ، بحيث لا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو غضب أو خوف أو نحو ذلك ،لقوله تعالى -: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً} وفي صحيح مسلم (2104 ) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ،فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" . " مجموع الفتاوى والرسائل " (7/43) .
وقال ابن القيم
– رحمه الله – في " إعلام الموقعين " (3/ 63 – 64) : " والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرهاً لمّا لم يقصد معناها ولا نواها ؛ فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرها لا يلزمه شيء من ذلك ؛ لعدم نيته وقصده ، وقد أتى باللفظ الصريح ؛ فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به ، والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل ، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة ، ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك ، كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد ، وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة ، فأيس منها ثم وجدها فقال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة الفرح " ، ولم يؤاخذ بذلك .... " . انتهى وقال عند كلامه عن اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ (3/75 - 76) : " وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر ... " إلى أن قال : " وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة الفرح لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر ؛ لكونه لم يرده ، والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته بخلاف المستهزئ والهازل ؛ فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا ؛ لأنه قاصد للتكلم باللفظ وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله ، أو مأذون له فيه ، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود ؛ فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل .
والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه أحق بالعقوبة ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يعذر الهازل بل قال { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وكذلك رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي . انتهى . وانظر " مدارج السالكين " (1/209) .
6 - الإكراه :
قال الإمام البغوي
– رحمه الله – في تفسيره ( 5/ 46 ) : " وأجمع العلماء على أن من أكره على كلمة الكفر ؛ يجوز له أن يقول بلسانه ؛ وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً ، وإن أبى أن يقول حتى قتل كان أفضل " . وقال القرطبي
– رحمه الله – في تفسيره ( 10/ 182 ) : " أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: " إلا من أكره " الآية.
وقال: " إلا أن تتقوا منهم تقاة " ، وقال: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض " الآية.
وقال:{ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الآية.
فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، قاله البخاري . انتهى
وقال الإمام الشافعي
– رحمه الله – في " الأم " ( 6/ 175 ) : " ولو أن رجلاً أسره العدو فأكرهه على الكفر لم تبن منه امرأته ولم يحكم عليه بشيء من حكم المرتد ؛ قد أكره بعض من أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الكفر فقاله ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما عذب به ؛ فنزل فيه هذا ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم باجتناب زوجته ولا بشيء مما على المرتد " . انتهى وقال ابن عثيمين
– رحمه الله - : " ومن الموانع أن يكره على الكفر لقوله تعالى { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليه غضب من الله ولهم عذاب عظيم } . والله أعلم المصدر من هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق